Total Pageviews

Dec 7, 2016

انتهاكات حقوق المرضى النفسيين بالصحة والحياة

 حقوق المرضى النفسيين بالصحة والحياة

الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي 
الخبير الدولي في مواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة

يشمل الحق بالصحة توفير مرافق وخدمات الرعاية الصحية بأعداد كافية آمنة، وإتاحتها بعدم تمييز لكافة المواطنين بما فيهم المرضى النفسيين، وأن تكون سهلة النفاذ لجميع شرائح المجتمع بما فيهم المهمشين والمحرومين والمعرضين للخطر، وأن تكون هذه الخدمات ميسورة للجميع على مبدأ المساواة، وأن تكون جيدة النوعية وتراعي مبادئ الأخلاقيات الطبية وآداب المهنية ولها مرجعية علمية قائمة عن السند البحثي وضبط جودة عالي، فلقد نص المبدأ الأول من "مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي وتحسين العناية بالصحة العقلية​" الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1991 على أن "يتمتع جميع الأشخاص بحق الحصول علي أفضل ما هو متاح من رعاية الصحة العقلية التي تشكل جزءا من نظام الرعاية الصحية والاجتماعية" 
العنف كأحد عواقب المرض النفسيجذور العنف تتراوح بين عوامل إجتماعية عامة أهمها شيوع المواقف التقليدية التي تنظر للعنف على أنه نمط شرعي مقبول وبين عوامل بالمجتمع المحلي كالفقر والبطالة والإكتظاظ السكاني وبين أضطراب في العلاقة ما بين الأفراد بما في ذلك أفراد الأسرة وهناك العوامل المتعلقة بالفرد والتي من أهمها معاناة الضحية أو المعتدي من أمراض أو إضطرابات نفسية أو إدمان، فكثير من الأطفال يتعرضون للعنف بسبب الإخفاق في تشخيص معاناتهم من إضطربات نفسية تصيبهم تحديداَ كالتوحد وفرط النشاط، وكثير من المراهقين والمراهقات يرتكبون نشاطات جُرمية أو يتغيبون عن منازلهم ويتعرضون لكافة أشكال الإستغلال بسبب إضطرابات سلوكية مرضية غير مشخصة ويُتهمون أنهم أشقياء وعدوانيون، وكثير من الأزواج يرتكبون العنف ضد زوجاتهم بسبب معاناتهم من أضطرابات في الشخصية أو الإدمان والتعود على الكحول والمخدرات والعقاقير المنبهة، وكثير من الأسر لا تتعامل مع المرضي النفسسين من أفرادها الإ بالشعوذة وأوهام السحر والأرواح النجسة والتي يرافقها كافة أشكال العنف والتعذيب بوسائل مهينة ولا إنسانية.

إن وجود الأمراض النفسية غير المشخصة وغير المتابعة طبيا يشكل مجازفة تهدد حياة المرضى النفسيين وأقاربهم وعائلتهم وتعرضهم جميعا لمخاطر العنف والإهمال بما في ذالك عواقبهما القاتلة، وهذا الواقع الأليم موجود بسبب شيوع ثقافة سائدة مكبلة بالجهل وبالوصمة الاجتماعية والتمييز ضد المصابين بالأمراض والاضطرابات النفسية، تتصف بالخوف والحرج من المجتمع والرفض والنبذ، مما يؤدي إلى شيوع إنتهاكات حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إن كان في المجتمع أو في مستشفيات وعيادات الأمراض النفسية، مما يزيد من إحتمال تعرضهم لإنتهاكات جسدية وجنسية وللحرمان الجائر من فرص المشاركة في الحياة الإجتماعية الطبيعية وللتميز الظالم ضدهم بالإنتفاع من الخدمات التي يستحقونها.

عوامل المجازفة لتعرض المرضى النفسيين للعنف والإهمال يمتد من الوصمة الإجتماعية إلى واقع أليم آخر يتصف بتدني جودة الخدمات الطبية والإجتماعية المقدمة لهم، فهناك نقص حاد في عدد الأطباء والممرضين والعاملين الصحيين الأخرين في مجال الصحة النفسية بشكل عام، وهناك غياب شبه تام للمختصين بالتعامل مع الأطفال الذين يعانون من أضطرابات وأمراض نفسية، وإن الخدمات المتوفرة تتصف بعدم الإنتظام وبغموض إجراءات التعامل مع الحالات الطارئة، كما وأن هذه الخدمات غير مدمجة بالرعاية الصحية الأولية وفي الخدمات الإجتماعية، وهناك نقص في التوزيع الجغرافي لهذه الخدمات، وغياب المعايير المناسبة للتوظيف وأستخدام الموارد البشرية وغياب معايير الرعاية وآليات مراقبة الجودة.

إن تراخي الدولة في مواجهة شيوع الوصمة الإجتماعية ضد المرضى النفسيين وعدم ضمانها لجودة الخدمات الطبية والإجتماعية المقدمة لهم وعدم إقرارها وتنقيذها ومتابعتها لإستراتجيات وسياسات وتشريعات متخصصة بالتعامل معهم أدى إلى وضع يتصف بإنتهاك حقوقهم والتميز ضدهم بعزلهم وحرمانهم من الاندماج السليم في المجتمع، كما وأن الحكومات نفسها قد تمارس التمييز المباشر ضد المصابين بالإضطرابات النفسية بإقصائهم غير المبرر وحرماﻧﻬم من العديد من مظاهر وحقوق المواطنة، مثل الحق بالتملك واستخدام الملكية، والتمتع بالحقوق الجنسية والإنجابية، والزواج، والحق في المقاضاة.

يشكل المرض النفسي عامل خطورة حقيقي لتعرض المرضى النفسيين لكافة الإنتهاكات القاسية في حقوقهم الأساسية بالحياة والصحة والحماية من قبل أقاربهم ومقدمي الخدمات الصحية لهم في أوقات وأماكن مختلفة، فهم يعاملون معاملة غير لائقة وجائرة وقد تحجز حرياتهم لفترات طويلة من الزمن من دون إجراءات قانونية أو بإجرءات قانونية تفتقد للعدالة كالحجز دون أطر زمنية واضحة أو دون تقارير دورية عن تطور حالتهم، ويتعرضون للإهمال في بيئات قاسية وغير آمنة ويحرمون من الرعاية الصحية الأساسية، وهناك كثير من المؤشرات على أنهم يتعرضون للتغذيب أو سواه من المعاملة الوحشية أو اللا إنسانية أو المهينة بما في ذلك الإستغلال الجنسي والإيذاء الجسدي. كثير من المرضى في مرافق الصحة النفسية يستبقون فيها مدى الحياة خلافا لإرادهم كما يتم تجاهل الموافقة الشخصية عند الدخول ولا تتولى جهة محايدة تقييم قدرات المريض على إتخاذ القرارات. كما وأن عدم توفر الأسرة والخدمات الملائمة للمرضى النفسيين قد يشكل أخفاق في تقديم العلاج لهم وبالتالي يعرضهم لتفاقم حالتهم مما قد يودي بحياتهم.

إنتهاك حقوق المرضى النفسيين كشكل من أشكال التعذيب: المادة 7 من "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" المتعلقة بتوفير الحماية ضد التعذيب وضد المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، تنطبق على مؤسسات الرعاية الطبية النفسية. ويعني هذا تحمل الحكومات المسئولية "بتوفير المعلومات حول أماكن الاحتجاز في مستشفيات الأمراض النفسية، والتدابير المتخذة لمنع الانتهاكات، وعملية الاستئناف والطعن المتاحة للأشخاص الذين أدخلوا المؤسسات النفسية، والشكاوى المسجلة خلال فترة التبليغ". يوجد في بعض مؤسسات الصحة النفسية عدد كبير من الأمثلة التي تجسد المعاملة اللاإنسانية أو المهينة. وهذه تشمل: الافتقار إلى البيئة الآمنة التي تحفظ الصحة، وإلى ما يكفي من الغذاء واللباس؛ وإلى التدفئة الكافية أو الملابس التي تقي من البرد؛ وإلى المرافق الصحية الكافية لتوقي انتشار الأمراض المعدية؛ والنقص في كوادر العاملين، مما يؤدي إلى إجبار المرضى على العمل دون أجر أو مقابل مزايا ثانوية؛ وإلى وجود أنظمة تقييدية تترك المريض غارقًا في مخلفاته البشرية، أو عاجزًا عن الوقوف أو التحرك بحرية مدة طويلة. الافتقار إلى الموارد المالية أو المهنية لا يمثل ذريعة تبرر المعاملة اللاإنسانية أو المهينة. فالمطلوب من الحكومات توفير التمويل الكافي للحاجات الأساسية ولحماية المرضى من المعاناة الناجمة عن نقص الطعام، أو اللباس، أو الموظفين المؤهلين في المؤسسة، أو المرافق الأساسية لحفظ الصحة، وعدم توفير البيئة التي تحترم كرامة الفرد.

وبغياب تشريع أردني متخصص بالتعامل مع الأمراض النفسية، حيث أقتصر قانون الصحة العامة رقم 47 لعام 2008 على أربع مواد بالفصل الرابع حول الصحة النفسية والإدمان، ومنها المرجعية في الإدخال جبرا للمستشفيات (المادة 14) في حالة كون المريض أو المدمن يسبب أذى لنفسه أو للأخرين سواء كان ماديا أو معنويا أو صدور قرار من المحكمة بذلك، إلا أنه هناك غياب لمعايير واضحة وموضوعية ومعلنة للإدخال القسري للمستشفيات وغياب تشجيع الإدخال الطوعي، وهناك ضبابية وغموض (المادة 15) في الحق في مراجعة الحالة وإعادة النظر في المعالجة القسرية في فترات زمنية محددة. 

إن عدم وجود تشريع أردني متخصص بالتعامل مع الأمراض النفسية يشكل عائقا حقيقيا أمام تقديم خدمات وقائية وعلاجية في مجالات الصحة النفسية، فلقد أشارت مراجع منظمة الصحة العالمية أن لدى حوالي 75 % من بلدان العالم تشريعات متخصصة للصحة النفسية (الأردن ليس منها) وهذه التشريعات في حال وجودها تعتبر وسيلة مهمة من وسائل تحقيق أهداف وغايات وسياسات الصحة النفسية على المستوى الوطني لشمولها على ضمان إنشاء مرافق وخدمات الصحة النفسية العالية الجودة، وتيسير نفاذ المواطنين إلى الرعاية الصحية النفسية الجيدة وحماية حقوق الإنسان للمرضى النفسيين كضمان السرية والخصوصية وحقهم بالعيش ببيئة آمنة وبالإتصال بالعالم الخارجي وبالعمل المناسب وحقهم بعدم التميز ضدهم وضمان حق المرضى النفسيين في المعالجة والتأهيل الإجتماعي.

يعتبر المصابون بالإضطرابات النفسية من الشرائح الإجتماعية المعرضة للخطر والسريعة التأثر وهم بحاجة لحماية خاصة، والحكومة ملزمة بإحترام وتعزيز وتطبيق حقوق المصابين بهذه الإضطرابات النفسية كما بينتها وثائق الأمم المتحدة، فقد ورد في المادة الأولى من "مبادئ الأمم المتحدة لحماية المصابين بعلل نفسية..." ما يلي "يتمتع جميع الأشخاص بحق الحصول علي أفضل ما هو متاح من رعاية الصحة العقلية التي تشكل جزءا من نظام الرعاية الصحية والاجتماعية. يعامل جميع الأشخاص المصابين بمرض عقلي أو الذين يعالجون بهذه الصفة معاملة إنسانية مع احترام ما للإنسان من كرامة أصيلة. لجميع الأشخاص المصابين بمرض عقلي أو الذين يعالجون بهذه الصفة الحق في الحماية من الاستغلال الاقتصادي والجنسي وغيرهما من أشكال الاستغلال، ومن الإيذاء الجسدي أو غير الجسدي أو المعاملة المهينة. لا يجوز أن يكون هناك أي تمييز بدعوى المرض العقلي. لكل شخص مصاب بمرض عقلي الحق في ممارسة جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعترف بها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"

إن حماية المرضى النفسيين وإعادة تأهيلهم جسديا ونفسيا وإجتماعيا هي مسئولية وطنية تتطلب مبادرة جدية من الحكومة لإقرار تشريع خاص قائم على الدليل العلمي المسند وبمرجعية إستراتجية وطنية تضمن توفير جودة عالية لخدمات الصحة النفسية، والتوعية بتثقيف عامة المواطنيين بأهمية الصحة العقلية، ورفع كفائة الأطباء والممرضين والعاملين الصحين، وضمان توفر الموادر المالية والبشرية. 

لقد نصت المادة 1 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1948، على أن جميع الناس يولدون "أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق" وبالتالي فإن المصابين بالاضطرابات النفسية يتمتعون أيضًا بالحق في حماية حقوقهم الإنسانية الأساسية والمادة 12 من "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" تقر بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة البدنية والنفسية يمكن بلوغه".