تدوينة | الصحّة النفسيّة بين نُخبويّة الاستفادة و العدالة الاجتماعيّة
تعتبر الصحة النفسية - بمفهومها الشامل - هدفًا "وقائيًا"، لا يستهدف إزالة العَرَض ، و لكنه يتجاوز ذلك ليركز بأصل المرض ، كتصور يُعنَى بالرؤية الشمولية المستقبليّة و ليست الاجتزائية الآنيّة ، ليصبح نتاجًا لتوافق عنصرين أساسيين : الجهة الطبية ، و البيئة متمثلة في المجتمع و الدولة ، لذا من غير المنطقي أن تتحقق هذه الصحة في مكان ما ، بإلقاء كامل المسؤولية على عنصر واحد ، فلا الجهة الطبية قادرة على العلاج الجذري دون تعاون البيئة ، و لا البيئة قادرة على مساعدة المريض بدون وجود عناصر طبية مسؤولة و فاعلة .
تُلقي العلاقة الجدليّة بين الفرد و مجتمعه بظلالها الواضحة على واقع الصحة النفسية باعتباره واقعًا لا يتحقق فقط بالإطار الضيق الذي يجمع الفرد بالجهة الطبية ، و إنما يتعداه ليتحقق بإطار أوسع ، يستند على مفهوم المسؤولية الاجتماعية للأفراد - على اختلاف صفتهم - تجاه بعضهم البعض و بالأخص تجاه الفئات التي تحتاج للمساعدة و الإسناد لمواجهة ظروفهم القاسية ، و من هنا تنطلق المسؤولية الاجتماعية ، لتقوم بطرح أبرز التحديات التي تحول دون توسيع نطاق الاستفادة من الخدمات الصحيّة ، و تبحث بالنقاش عن الأفكار و الأدوات اللازمة للنهوض بوضع الصحة النفسية في مجتمع ما ، خاصة إذا كان وضع هذه الصحة في هذا المجتمع يعاني من اختلال واضح .
و يبرز مبدأ "العدالة الاجتماعيّة" في ضوء هذا الوضع ، كأحد الأعمدة الهامة لبناء وضع صحي حقيقي غير مزيف و لا خادع ، كمبدأ يُقر أن "للبشر جميعهم" نفس الحقوق المتساوية في الغذاء و العلاج و التعليم و المسكن و الأمن ، بدون تمييز تحت أي مُبرر ، كونها حقوقًا إنسانيّة ، يخضع الإقرار بها لمدى عمق الإحساس بالإنسان و حقوقه المشروعة . و إن كان توفر هذه الحقوق ضروريًا لاستقرار الحالة الصحية - بمفهومها الشامل - للمجتمعات ، إلا أنه سيتم التركيز في هذه التدوينة على مبدأ العدالة الاجتماعية فيما يتعلق بالعلاج ، و إن كنا بطبيعة الحال ندرك أننا معنيون أيضًا ببقية الأهداف التي يسعى إليها هذا المبدأ ، كمنحازين في الأساس للإنسان و حقوقه . و من الغريب جدًا ، أن هذا المبدأ لا يتم التعرض له بالإلحاح و التركيز الكافيين ، بالقدر الذي يتناسب مع شدة الاحتياج لشيوع الاتكاء عليه كنقطة انطلاق لأي عمل إنساني جاد .
عند تناول الوضع في أغلب الدول العربيّة كنموذج ، فإننا سنجد عواملاً قد أضرت بشكل مباشر بالصحة النفسية ، كونها عمقت التمييز الاجتماعي حين أصبحت جودة العلاج مرهونة بالقدرة المالية ، حيث تستفيد بالقدر الأكبر منه ، نخبة هي من تملك القدرة على تحمل العبء المالي ، و هو مؤشر خطير كلما ازداد في مجتمع ما ، خاصة إذا كان هذا المجتمع على موعد مع تصاعد مضطرد لاستنزاف الطبقة الوسطى ، و تناقص القيمة الفعليّة لمداخيل الأفراد ، و عندما يتضافر هذا كله مع صورة ذهنية اجتماعيّة شديدة السلبيّة و الجهل تجاه فكرة العلاج النفسي ككل ، فإن الاستمرار في تجاهل رعونة تعميق هذا التمييز ، و عدم الطرح النقدي الجاد له على الساحة ، يعني المشاركة - عمدًا أو عن غير عمد - في تدني مستوى الصحة النفسية و الجناية الممنهجة عليها ، إن كان على المستوى المفاهيم أو مستوى السلوك . و يمكن استعراض ملامح هذه العوامل على النحو الآتي :
- ارتفاع أسعار الأدوية
من المعلوم أن معضلة ارتفاع أسعار الأدوية النفسيّة معضلة عالميّة و ليست مقصورة على البلدان العربية ، حيث تلعب مافيا الدواء في العالم دورًا كبيرًا في الحفاظ على معدل من الدخل المالي يتوافق مع مصالحها كمؤسسات ربحيّة في المقام الأوّل ، بل أن دورها يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك ، حيث النفوذ الواضح لها في رعاية المؤتمرات و المجلات العلميّة ، ما يعني الترويج للدراسات و وجهات النظر التي تقوي نفوذها كشركات يهمها أن تجد سوقًا متناميًا لمنتجاتها ، و يصبح من السذاجة تخيل أن هذه الشركات قد تكون على استعداد للتخلي بسهولة و مثاليّة لا يعرفها رأس المال ، عن التصاعد الربحي لها أو التنازل عن مكاسبها الضخمة ، بدعم بحوث أو أطروحات أو محاولات تسعى بجدية للتخفيف من الاعتماد على الأدوية بشكل كبير في بعض الحالات أو إلغاء استخدامها في بعض الحالات .
- ارتفاع أسعار الكشف و الجلسات العلاجيّة
لعل من أفدح الرزايا التي يُمكن أن تُبتلى بها الخدمة العلاجيّة في مكان ما ، هي خضوعها لقيم "السوق" ، حيث تتحكم آليات العرض و الطلب ، و تُترك المساحة لسيادة منطق التجارة و الاستغلال ، بطريقة تتناقض مع فلسفة العلاج باعتباره حقًا إنسانيًا لا يجب أن يخضع للمساومة" تحت ميزان الغنى و الفقر" . و لا يخفى على العاقل ، كيف أن هذا الأمر أساسًا يساهم بشكل مباشر في تشويه فكرة العلاج النفسي أكثر مما هي عليه الآن .
و الأفدح ، عندما تترافق هذه المشكلة مع انخفاض مستوى الخدمات الصحيّة المجانيّة في مناطق ، أو انعدامها في مناطق أخرى ، ليصبح الفرد أمام احتكار واضح لسبل العلاج ، و معلوم أن الاحتكار يحفز بديهيًا تصاعد أسعار العلاج ، خاصة إذا جاء هذا مع ضعف في القدرة الرقابية عليها ، و غياب تفعيل القوانين المنظمة للتعرفة السعريّة و الرادعة للتجاوز ، أو حتى غياب القوانين أصلاً .ففي السعودية مثلاً ، تبدأ قيمة الجلسات العلاجيّة المرتفعة من (500) ريال في بعض الجهات للجلسة الواحدة ، و قد تصل لأعلى من ذلك ، و بواقع لا يزال أسيرًا لذهنية خجولة و مترددة تمتلئ بالضلالات حول المرض و العلاج النفسيين ، فإن تغوّل السلوك التجاري حيال العلاج يصبح أمرًا حتميًا ، خاصة إذا توازى ذلك مع سمعة يصعنها الإعلام ، مسوقًا لهذا المعالج أو تلك الجهة ، و لا يعني هذا انعدام جهات علاجيّة تقدم جلسات بأسعار متدنية "نسبيًا" ، (300) ريال للجلسة الواحدة مثلاً ، لكنها في كل الأحوال تظل تكلفة مرتفعة ، إذا وضعنا بالاعتبار تراكميتها كعبء عند احتمالية احتياج الفرد لأكثر من جلسة ، و إذا أضفنا لها كذلك تكلفة الدواء المرتفعة أصلاً ، ناهيكم عن مصاريف المواصلات و الإقامة و الغذاء التي قد يتكبدها فرد قادم من قرية نائية في جنوب البلاد مثلاً لمدينة مثل جدة أو الرياض ، و الذي قد يفاقم هذا العبء المادي أزمته النفسيّة أصلاً ، في مفارقة مثيرة للعجب ، خاصة أن الوضع العام في البلدان العربيّة يجعل العلاج النفسي مُلحًا إلى الدرجة التي تنعدم فيه أي رفاهية لسلوك المتاجرة اللامسؤولة ، حيث أن التصور العميق لمفهوم العلاج النفسي ، يخلق مسؤولية اجتماعيّة ، يجب أن تُمارس بوعي تفرضه المهمّة الإنسانية للمُعالِج ، و التي إن انتفت ، فإنها كفيلة بنزع أهليته الفعليّة للعلاج ، كون الاستغلال و اللامبالاة بأعباء التكلفة تتناقضان بشكل جوهري مع القدرة العلاجيّة الحقيقيّة المبنيّة أصلاً على عمق الإحساس بالآخر .
ويهمني هنا أن أنبّه على نقطة أرى أن الإشارة إليها ضرورية لمنع وقوع الالتباس في التصور أو الاستغراق في المغالطة .إننا عندما ننتقد التكاليف العلاجية للمرضى عمومًا و من يعانون من الأمراض النفسية خصوصًا ، فإن هذا لا يعني إغفال الالتزامات المادية التي تحيط بمن يقومون بالمهام العلاجية في القطاع الخاص سواءً كانوا مراكزًا للعلاج أو أفرادًا ، ولكننا نشدد على أن التحجج بالالتزام المادي لن يُقبل كمبرر للاستغراق في دائرة مفرغة من تراكم الأعباء الماديّة على من يتوقون للعلاج بشكل آدمي ، وهذه الالتزامات لا تعفينا جميعًا من أن نبحث – بجدية و ضمير – صيغة جديدة و مبتكرة لتحقيق التوازن بين دخل مادي عادل للمعالج والطبيب والمركز العلاجي ، وعلاج يستوفي الشروط الآدمية للمرضى دون خضوعهم للعبء و الاستغلال المادي في الوقت نفسه، لأن البحث عن الصيغ الجديدة لحل أي مشكلة أو أي اختلال في التوازن ، هو الدور البديهي لمن وضع نفسه في حيز المسؤولية وتماسّ معها بقبوله في أن يُصبح معنيًا بها ، فالتحجج دائمًا “بالأمر الواقع” مع التكاسل أو اللامبالاة في محاولة إيجاد صيغ و حلول تغيير هذا الأمر الواقع هي بلادة مُخلّة بأهلية الفرد لتحمل مسؤوليات من هذا النوع .
- حرمان بعض الفئات من العلاج المجاني
لأن الصحة النفسية لمجتمع ما ، هي نتاج الحالة النفسية لمجموع أفراده ، على اختلاف تنوعاتهم العرقية و الدينية ، لذا يصبح حرمان فئة معينة منهم من العلاج ، إخلالاً بمفهوم الصحة العامّة ، و تمييزًا عنصريًا لا يتفق مع الحق في العلاج كحق إنساني غير مشروط . ففي بعض البلدان ، يُحرم الوافد المقيم ، بحال كان يعمل لجهة غير حكوميّة ، و أولئك المواطنين الذين لا يحملون هويات وطنيّة و الذين يسمون قانونيًا بتلك التسمية المؤذية "البدون" ، و يحرم أبناء المواطنات المتزوجات من غير المواطنين ، من العلاج في المستشفيات و المراكز الصحيّة الحكوميّة ، ليلجأ هؤلاء للعلاج الخاص اضطرارًا ، مع ما عليه من تحفظات في وضع يتسم بالعشوائية و غياب الانضباط ، متحملين عبئًا ماديًا كبيرًا لا يتناسب في حال كثير منهم مع أوضاعهم الاقتصادية المتأزمة ، نظرًا لقيود القانون التي أثرت على جودة أوضاعهم المعيشيّة .
و المشكلات التي تقدم عرضها ، و إن كان بعضها عويصًا و معقدًا في العالم الذي يقدم خدمات صحيّة متطورة ، فلنا أن تخيل إذن حجم تعقيداتها و ما تخلفه من صعوبات و آثار سلبيّة لدينا ، باعتبارنا في مناطق يغيب فيها مجتمع مدني ناضج ، و تقل بها المبادرات التطوعيّة الفعّالة أو التي تحمل رؤية متماسكة على الأقل ، و فوق هذا و ذاك ، يضعف فيها دور الدولة في القيام بمسؤولياتها التشريعية و التنفيذية نتيجة لتغول الفساد و تجذره . كما أن عدم التناول الجاد و النشط لهذه المشكلات باعتبارها مشكلات "مُلحّة" و "غير مستقيمة" مع أي رغبة لإقامة مجتمع صحي نفسيًا ، يعرضها لأن تكون مُسوّغة و مُعتادة بحكم أمر واقع ، حتى إذا تكلم فيه أحد قوبل باستغراب شديد ، و كأن هذا هو الطبيعي ، و ما عداه هو الاستثناء ، و هذا ما يجب أن نخشى تجذره على المدى البعيد ، إن حصلت اللامبالاة تجاه استشعار إعاقة هذه المشاكل للجودة الصحيّة القيِّمة .
و سوف نصدر في المجموعة عمّا قريب بإذن الله ، و بعد إتمام التشاور و التنسيق الإداري ، تصورًا كاملاً حول الأفكار التي من الممكن البدء في تنفيذها كخطوة أولى في تنفيذ رؤيتنا الخاصة المُنحازة لمبدأ العدالة الاجتماعيّة في العلاج ، و من المهم الإشارة في الوقت ذاته ، أننا معنيون كمتطوعين ، بإدراك أنه في ظل غياب التشريعات و القوانين الداعمة للعمل التطوعي الفاعل ، فإننا لن نكون قادرين في مراحل العمل الأولى على تحقيق كل ما نريده ، لكن يجب ألا يعني هذا التخلي عن المساهمة بما يُتاح لنا من إمكانيات حالية ، بردم أي فجوة بين الفرد و الحصول على الجودة العلاجية ، مع إثراء التنظير لاحتياجات لم تتحقق ، و النقد المتواصل لواقع يسعى للتطور ، حتى إذا تضاعفت إمكانياتنا و كبرت ، نكون قد كوّنا رؤية مُسبقة ثرية قد حصلت بذلك التنظير ، تعمل كخارطة نمشي عليها في تفعيل ما استجد لنا من إمكانيات بشكل مُثمر ، لأن أكثر ما يشتت الجهود ، و يمحق القيمة ، هو انعدام وجود رؤية نظرية مسبقة ، تعرف ماذا تريد ، و توظف الإمكانية المناسبة للفعل الملائم ، و تستشرف المستقبل ببعد نظر و تعمل للاستعداد له ، و لعل غياب الرؤيويّة أو ارتجاليتها ، واضحة في الكثير من المبادرات التي بدأت بحماس شديد ثم توقفت في المنتصف ، أو أنها أكملت المسير بأرجل عرجاء .