- علماء النفس العرب لم يخدموا قضايا الفرد والمجتمع العربي
- الفرد الخليجي غيور على إنسانيته ومجتمعه
أكد العالم والمتخصص في علم النفس وصاحب كتابي "علم الإنسان المقهور" و"علم الإنسان المهدور"، الدكتور مصطفى حجازي، للإسلام اليوم، أن أمام علم النفس العربي مرحلة تاريخية وجديدة متمثلة في الربيع العربي بإمكانه فيها أن يؤسس لعلم نفسي عربي مستقل، حيث إنه اعتمد في الماضي على نقل نظريات جاهزة ابتكرت لخدمة المجتمعات الغربية الصناعية، الأمر الذي منع علماء النفس العرب من توظيف علم النفس في خدمة قضايا الفرد والمجتمع العربي.
واعتبر د. حجازي أن الإنسان العربي قد كسر حاجز الخوف والرعب، الأمر الذي يسمح من خلاله بحدوث تحولات ثقافية في الذهنية العربية المعتادة على التحولات "السحرية"، مشيدا في ختام حواره بغيرة الفرد الخليجي على إنسانيته ومجتمعه. تفاصيل أخرى تطرق لها د. مصطفى حجازي خلال هذا الحوار:
بعد الربيع العربي: يبدو أن علم النفس في العالم العربي أمام مرحلة جديدة من التحليل والتنظير. أنتم كمتخصصين في علم النفس كيف تنظرون للربيع العربي؟
الحقيقة لا بد لعلماء النفس في العالم العربي من دراسة هذه الظاهرة التي مكنت من إجراء تحول كبير في واقع المجتمعات العربية، ومن وجهة نظري هذه الظاهرة تدل على أن طاقات الحياة والنماء والتقدم واستعادة الكرامة وإيجاد الذات والمواطنة الحقة المستعصية على كل صنوف القمع والكبت قد انطلقت من جديد، من الممكن أن يرضخ الأشخاص ويستكينوا لفترة، لكن طاقة الحياة تأبى إلا أن تنهض من جديد تماما مثل الربيع الذي يأتي بعد الشتاء المدمر والمخرب، حيث تخضر الأرض وتعشوشب، فهذا من طبيعة الحياة ذاتها التي ترفض الموت والاستسلام، من الممكن أن ترضخ أو تستكين لظروف معينة إلا أن ذلك لا يقضي على جذوة الحياة نفسها، وهذا هو الدرس الأساسي والمهم الذي نتعلمه من الربيع العربي، أن جذوة الحياة لا تزال حية، وإنما تنتظر الفرصة المناسبة كي تتجلى، وهذا التجلي يحدث بعدم استسلامنا لليأس والتشاؤم وجلد الذات والندم، هذه ظروف تاريخية، بطاقاتنا وقدراتنا وإمكاناتنا وحيويتنا نستطيع أن نتعامل معها ونستطيع التغلب عليها.
إذن: رغم اصطباغ الربيع العربي باللون الأحمر، أنت تنظر إليه على أنه دورة جديدة للحياة، لا كما يردد البعض بأنه عكس ذلك؟
بالتأكيد، الربيع العربي هو شكل جديد من أشكال الحياة لإنساننا العربي. لي مقالة كتبتها في إحدى المجلات عن الربيع العربي وبينت فيها أنه مهما كانت هذه التفسيرات السياسية لهذا الربيع، فإن هناك ظاهرة لا يمكن نكرانها، وهي أن إنساننا العربي لا تزال جذوة الحياة موجودة فيه، وإنساننا من خلال هذا الربيع يحاول استرداد كرامته وحقه في الحياة، حريته وحقه في إنسانيته المهدورة والمطموسة، وهذا موجود في كل الشعارات المرفوعة في هذا الربيع، سواء كان مصطبغا باللون الأحمر أم كان أكثر اخضرارا. هناك تحول مهم لإنساننا الذي كسر حاجز الخوف والرعب وأصبح يحس بكيانه الذي يمكنه من أن يقول ومن أن يفعل، وهذا من أهم الدروس التي نأخذها من الربيع العربي رغم النكسات التي تحدث هنا وهناك.
طرح مختلف
وهل يمكن أن يكون هناك طرح من قبيل النفسية العربية قبل الربيع العربي، والنفسية العربية بعد الربيع العربي؟
بالطبع، هناك نقلة نوعية وتاريخية، مثلا: في مصر لأول مرة منذ خمسة آلاف عام أسقط المصريون فرعونهم، كان هناك اعتقاد راسخ بحتمية الحياة الخاضعة للفرعون، وأنه ليس هناك إمكانية لتغيير هذه الحتمية بمراراتها ومعاناتها وآلامها، والآن ماذا نرى في مصر؟ نرى أن الناس في الشارع أججت طاقات الحياة فيهم، تجمعوا في الميدان وتعاونوا، أقباطا ومسلمين، كبارا وصغارا، تجاوزوا مشاعر الهزيمة والعجز والاستكانة، وشعروا بمعنى استرداد إنسانيتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة في جميع البلدان التي عاشت فصول هذا الربيع المجدد لطاقات الحياة.
طرحت ملف هدر الإنسان الذي يتحقق في ظل حكومات استبدادية تمارس الهدر بالتجريم والتحريم والنفي والإبعاد وما إلى ذلك من وسائل. هل نحن أمام حالة واعية بأشكال هذا الهدر؟ أم أنها مرحلة نفسية ثورية في الظاهر فقط؟
بالطبع، ثورات الربيع العربي هي انتفاضة على الظلم والإذلال والمهانة، في سوريا الآن ترفع شعارات: الموت ولا المذلة. شعوبنا مازالت واعية، وهي ليست غبية أو ساذجة، ولا هي مجرد آلات ليس مطلوب منها سوى العمل والأكل والنوم، مثل هذا الكلام ليس له وجه من الصحة، هي مرحلة تحول إنساني كياني. لكن يجب أن نعي أن هذا التحول من المستحيل أن تكتمل كافة فصوله خلال شهر أو اثنين، هذا في الحقيقة نوع من الأحلام، تغيير الأنظمة وما يقتضي ذلك من التحولات والمتغيرات الاجتماعية وعمليات البناء هذه الأمور مخاضها مخاض عسير وطويل، مثلما نرى بعد هدوء الانتفاضات والتجمعات. من الطبيعي أيضا أن يكون هناك تراجع وتقهقر لأن كل التحولات الكبرى عالميا أخذت سنوات طويلة، وفي بعض الأحيان استغرقت عقودا حتى وصلت إلى غاياتها، يجب أن نعي أن القضية ليست "كن فيكون". الشرارة انطلقت، وإنساننا العربي خرج من قمقمه وأصبح واعيا بما وصل إليه ولن يرجع إلى الوراء.
لكننا يا د. مصطفى بمغازلتنا لهذا الإنسان العربي الثائر وإغداقنا عليه كل هذه الصفات؛ ألا نخشى أننا نصنع ديكتاتورا آخر بأيدينا؟
هذا سؤال في محله؛ لأن التحول الذهني يقتضي تحولا ثقافيا، فالربيع العربي بحاجة إلى وقت طويل، حتى يحدث فيه التحول الثقافي في الذهنيات والعلاقات وأنماط النظرة إلى الدنيا والتفكير والإدارة ونظم الحكم والسياسة وتدرب الناس على الديمقراطية والمساواة، كل ما ذكرته يأخذ وقتا طويلا، وهذه معركة أخرى لا بد للصغار والكبار من خوضها، وهذه مهمة المثقفين في المقام الأول. المثقفون والإعلاميون والصحفيون لا بد لهم من العمل على فسح المجال للتغير الثقافي الذي بطبيعته يكون بطيئا، وصولا إلى ترسيخ مكتسبات هذا الربيع العربي.
أرقام وإحصائيات
الإحصائيات المرتبطة والمجملة للربيع العربي مثل تلك التي تشير إلى ارتفاع التفاؤل بين أفراد المجتمعات العربية.. ما مدى صحتها وموضوعيتها؟
من آثار الربيع العربي على النفسية العربية العامة إحداث فورة حماس هائل، وانفتاح على المستقبل ورسم صور وردية له، وعادة الانتفاضات تتلازم مع التفاؤل والفرح لارتباطها عادة بطاقات الحياة التي بطبيعتها هي ذات طبيعة تفاؤلية منفتحة عليها، لكن ما ينبغي التنبه له هو إمكانية حدوث انتكاسات، من الممكن أن تستغل جهات ما الربيع العربي وتوظفه توظيفا سيئا، لذا ينبغي على المتفائلين ألا يغرقوا في التفاؤل لأن المجتمعات لا تتغير بعمل ساحر، الذي هو للأسف دائما ما تعول جماهيرنا عليه.
علم هامشي
وهل ترى أن علم النفس العربي يواكب هذه المتغيرات؟
هذا السؤال يلامس الجوهر. علم النفس من بداية ظهوره عربيا هو علم هامشي محصور في دوائر ضيقة، سواء في المدارس أو الجامعات أو العيادات أو في بعض التطبيقات، علماء النفس العرب لم يقوموا بأي جهد حقيقي لتوظيف علم النفس لخدمة قضايا الإنسان والمجتمع العربي، كل ما عملوه هو نقل نظريات جاهزة، وهذه النظريات وضعت أصلا للمجتمعات الغربية الصناعية، ولم توضع لاحتياجات مجتمعاتنا بخصوصياتها الثقافية والاقتصادية وغيرها، ولذلك ظل علم النفس العربي مجرد أصداء لما يحدث في الغرب، مع تطبيقات هزيلة أو محدودة في التربية وفي بعض العيادات النفسية وفي الدعاية والإعلان والإدارة وغيرها.
علم النفس العربي لم يطرق بعد واقع المجتمعات العربية وبناها وخصائصها الثقافية وقيمها. ما عملته أنا في علم الإنسان المقهور والمهدور هو أنني وظفت علم النفس في فهم إنساننا العربي تحت ظروف القهر والهدر التي يعاني منها، ولذلك ألفت كتابا يطلق طاقات الحياة لدى إنساننا العربي. فالربيع العربي يمثل فرصة لعلماء النفس العربي ليبدؤوا مرحلة فاعلة.
لا أريد أن أتجنى على أحد؛ لكن علماءنا النفسيين مع الأسف: إما أنهم يؤثرون السلامة أو أنهم يؤثرون الاستسهال، من السهل على أي واحد منا أن يطلع على نظريات يستعرضها ويبشر بها، مع أن هذه النظريات قد لا تنطبق على واقعنا لا من قريب أو من بعيد، لا بد أن نتحول إلى باحثين في قضايانا، وهذا لا ينحصر على علم النفس فقط، بل على جميع العلوم الإنسانية في العالم العربي الذي تحتل مكانا كبيرا في جامعاتنا العربية، إلا أنه محظور عليها دراسة الواقع الاجتماعي العربي بخصوصياته الفعلية، مفروض عليها نوع من الحظر والتحريم، لا تدرس هذا أو تتكلم عن ذاك، تسلى بصغار التلاميذ أو ببعض الحالات النفسية، لكن لا تقرب البنى الاجتماعية القائمة، هذه يمنع الاقتراب منها. كل واحد منا يريد أن يلحق رزقه فيضطر أن يرضخ لهذه التعليمات، إما رغبة أو رهبة.
مرحلة تاريخية
إذن: أنت ترى أن علم النفس العربي أمام مرحلة تاريخية، أمام شعوب تعتبر بكرا من الناحية الاجتماعية، فبالتالي بإمكان علم النفس العربي أن يعوض ما فاته في الماضي..
نعم، بل إن هذه مهمة تاريخية أمام علماء النفس العرب كي يكونوا على صلة بواقعهم وواقع إنسانهم ومجتمعاتهم، ويسلطوا إضاءات على خصائص هذه المجتمعات وخصائص أفرادها، حتى يلمسوا إيجابياتها ومسببات معوقاتها، من أجل أن يسلطوا الأضواء عليها وبالتالي يمكن علاجها.
الخليج وواقعه
الدول الخليجية كانت بمنأى عن الربيع العربي بشكل أو بآخر. هل معنى هذا أن الوضع النفسي والاجتماعي والاقتصادي لشعوب هذه الدول هو وضع جيد وناجح؟
لا، أنا لا أجد فرقا بين الفرد الخليجي وبين بقية أفراد العالم العربي، إذا أخذنا الشباب الخليجي فليس من الصحيح أن الشاب الخليجي هو شاب مستهتر يبحث عن متعته وما إلى ذلك، هو إنسان مستعد أن يعطي ويقدم ويضحي ويشارك ويساهم، لكن الواقع الراهن للشباب الخليجي لم يتح لهم فرصا كي يبرهنوا عن استعدادهم ذاك، والإنسان الخليجي عموما هو ليس أقل غيرة على إنسانيته ونهضة مجتمعه.
وهل تعتقد أن مشاركة المجتمعات في الحياة السياسية العامة يحسن من حالتها النفسية العامة؟
من الطبيعي جدا حدوث ذلك، فالربيع العربي بثوراته وانتفاضاته هو إطلاق طاقات الحياة في نفس إنساننا، فعندما تطلق كل طاقات الحياة ستزول حالات الكآبة والاضطراب والغرق في الاستهلاك، والكثير من الظواهر السلبية هي مجرد ردود فعل على إخماد وكبت طاقات الحياة، فعندما تخرج طاقات الحياة وتتحرر، تخرج معها كل هذه الأدران والعقد والاضطرابات النفسية، ما عدا طبعا الاضطرابات العصبية المرضية الراجعة إلى اختلالات عضوية أو بيولوجية، هذه تستلزم علاجات بالعقاقير الطبية المعروفة.
وما هو الدافع النفسي وراء وقوف الشعب السعودي وبقية الشعوب الخليجية مع أغلب ثورات الربيع العربي؟
هذا دليل على ما قلته. إنساننا الخليجي ليس فاقدا للطموح إلى حياة ذات معنى وكرامة، كل شعوبنا تراكمت عليها الهزائم، وكان مطلوبا منها أن تستكين وأن تستسلم؛ ولكنها لم تستكن ولم تستلم. هي تسكت.. تهدأ.. تنتظر، إنما في اللحظة المناسبة تظهر طاقات الحياة الموجودة التي لا بد لها من فكر وبصيرة وتدبر وحسن إعمال للفكر والقيادة.