بقلم: دكتور إدريس شاهدي الوزاني - المدينة المنورة
ردا على تساؤل :" هل يمكن بناء أسس مدرسة نفسية بدون شرح واف لقواعد علم النفس المرضي المتعلقة بها؟" ، و الجواب "لا".
علم النفس المرضي هو مجموعة الآليات النفسية و غيرها التي تتضافر و يؤازر بعضها البعض لإنشاء عرض نفسي . فالتحليل النفسي له قواعده المفترضة و المتعلقة بالحيل النفسية و الدفاعات و كذا خصائص كل مرحلة من مراحل النمو النفسي التي تكلم عنها "فرويد"، مثل النكوص و التسامي و الإسقاط و الإزاحة ، أما المراحل الفمية و الإستية و الأوديبية فلكل منها ما يناسبها من اضطرابات كالوسواس القهري بالنسبة للإستية و هكذا مما هو مفصل في تحليلاتهم.
العلاج الجشطلتي لا يعترف بسطوة الماضي و يعتبر ذلك ضياعا للوقت، و المهم التركيز على الحاضر و على التجربة الوجدانية هنا و الآن ، مع اعترافه بمبادىء التحليل النفسي في مجمل لعلاج بالمعنى الوجودي يفترض بأن الاضطراب النفسي هو نتيجة لغياب معنى في الحياة، و الحل هو إيجاد معنى أو غاية ، و لا يهم إن كان هذا المعنى صحيحا أم لا، متجاوبا في النهاية مع النظرية الوجودية.
العلاج الأسري و النسقي عموما أي المبني على المنظومات(systemic)،يحدد نوع العلاقات بين الأفراد التي تطرح إشكالية أو تؤدّي إلى الاضطرابات النفسية ، و اشتغل الباحثون في هذا المضمار بصفة خاصة على ميدان الإدمان و العنف بأشكاله المختلفة و غيرها من الميادين، و السؤال : " إلى أي حدّ التزم الباحثون بالحيادية و بالموضوعية و العلمية؟؟، حينما يقترحون مثلا على أسرة تغيير نمط العلاقات داخل الأسرة و ربما يكون هذا الاقتراح لا يستند على أي مستند علمي، يكون فقط اجتهادا من المعالج للخروج من الأزمة، و قد حضرت دورة بباريس للدكتور فاسلافيتش بول"paul Wstslavicz" و هو أحد مؤسسي معهد "باولو ألتو" بأمريكا و الذي يهتم أساسا بالعلاجات النفسية قصيرة المدى،ربما أعرض لاحقا أهم نتائجها، و يتبين من خلالها دور الابتكار البشري أي العطاء الذاتي فيما يخص الفنيات العلاجية.
قبل أن أسترسل في تحليل أهم المدارس العلاجية الموجودة في الساحة النفسية ، أشرك القارىء فيما كتبت عن الخلفية الفلسفية لمؤسسي أهم المدارس العلاجية، معتمدا أساسا على تصريحات المؤسسين أنفسهم، لأن العاملين في الساحة النفسية، و من خلال معايشتي لهم أثناء ممارستي الميدانية لاحظت إغفالهم لهذه النقطة و التي أراها من اللأهمية بمكان ، و بل و بعضهم يهوّن من شأنها، لذلك سأضع بين يدي القارىء فقرة الخلفية الفلسفية للمدارس العلاجية من كتابي " العلاج النفسي و خطورة المنطلق"،مع قناعتي التامة بأن الخلفية الفلسفية لمؤسس مدرسة ما تدخل في صميم أسس و قواعد علم النفس المرضي.
و في مقالة لاحقة إن شاء الله تعالى سأتطرق للقواعد و الآليات النفسمرضية المقترحة في الكتاب المنوه عنه أعلاه و المتعلقة بالمدرسة النفسية الإسلامية.
و الآن إلى المقال حول الخلفية الفلسفية..
العلاج الأسري و النسقي عموما أي المبني على المنظومات(systemic)،يحدد نوع العلاقات بين الأفراد التي تطرح إشكالية أو تؤدّي إلى الاضطرابات النفسية ، و اشتغل الباحثون في هذا المضمار بصفة خاصة على ميدان الإدمان و العنف بأشكاله المختلفة و غيرها من الميادين، و السؤال : " إلى أي حدّ التزم الباحثون بالحيادية و بالموضوعية و العلمية؟؟، حينما يقترحون مثلا على أسرة تغيير نمط العلاقات داخل الأسرة و ربما يكون هذا الاقتراح لا يستند على أي مستند علمي، يكون فقط اجتهادا من المعالج للخروج من الأزمة، و قد حضرت دورة بباريس للدكتور فاسلافيتش بول"paul Wstslavicz" و هو أحد مؤسسي معهد "باولو ألتو" بأمريكا و الذي يهتم أساسا بالعلاجات النفسية قصيرة المدى،ربما أعرض لاحقا أهم نتائجها، و يتبين من خلالها دور الابتكار البشري أي العطاء الذاتي فيما يخص الفنيات العلاجية.
قبل أن أسترسل في تحليل أهم المدارس العلاجية الموجودة في الساحة النفسية ، أشرك القارىء فيما كتبت عن الخلفية الفلسفية لمؤسسي أهم المدارس العلاجية، معتمدا أساسا على تصريحات المؤسسين أنفسهم، لأن العاملين في الساحة النفسية، و من خلال معايشتي لهم أثناء ممارستي الميدانية لاحظت إغفالهم لهذه النقطة و التي أراها من اللأهمية بمكان ، و بل و بعضهم يهوّن من شأنها، لذلك سأضع بين يدي القارىء فقرة الخلفية الفلسفية للمدارس العلاجية من كتابي " العلاج النفسي و خطورة المنطلق"،مع قناعتي التامة بأن الخلفية الفلسفية لمؤسس مدرسة ما تدخل في صميم أسس و قواعد علم النفس المرضي.
و في مقالة لاحقة إن شاء الله تعالى سأتطرق للقواعد و الآليات النفسمرضية المقترحة في الكتاب المنوه عنه أعلاه و المتعلقة بالمدرسة النفسية الإسلامية.
و الآن إلى المقال حول الخلفية الفلسفية..
5 -الاتجاهات العلاجية والخلفية الفلسفية
جل المدارس والاتجاهات ذات الصيت في العلاج النفسي لها خلفية فلسفية وراءها، لها نظرة عن الإنسان مسبقة، وهذه النظرة تحدد الأسس التي تقوم عليها دعائم هذا الاتجاه أو ذاك، ومن هذه الأسس ينطلق بالتالي هرم الأسس في العلاج النفسي، الخاص بهذا الاتجاه أو ذلك.
يـقـول فـرانـكـل (FRANKL) مـؤسس الـعـلاج بالمعنى الـوجـودي (LOGOTHERAPY) : "أن الدلالة الميتاكلينكية (METACLINIQUE) للعلاج النفسي، تشير أساساً إلى مفهومه عن الإنسان وفلسفة الحياة، ولا يوجد علاج نفسي بدون نظرية عن الإنسان وفلسفة حياة تقوم على أساسها هذه النظرية"(22).
وهذه حقيقة لا مفر منها، لأن ميدان "النفس" هو ميدان السلوك والوجدان، أي أنه يشتمل على عناصر لا تخضع للتجريب والقياس، إذ كيف نقيس الحب والكره والفرح والحزن والنفاق والصدق…؟ فهي معان لا يسري عليها قانون المساحة والمقدار وقانون السببية والبعد الزمني.
ضرورة الوصول إلى فهم أسرار هذا الكائن العجيب الذي هو الإنسان تفرض تبني وجهة نظر "فلسفية"، لأن إشباع رغبة المعرفة يقض المضجع ويؤرق وفي نفس الوقت يحث ويستعجل، وهذا الاستعجال هو الذي يعجل بتبني نظرة عن الإنسان حتى يهدأ ذلك الصوت، وهذا التبني هو نوع من الإيمان في الحقيقة.
إن "فرويد" عبر عن هذه الرغبة "بالطاغية"(23): "إن رجلاً مثلي – يقول فرويد – لا يستطيع أن يعيش كما قال: "تشيلر" دونما طاغية، ولقد عثرت على طاغيتي: إنها علم النفس".
ارتفعت أيد تصفق لفرويد، في نفس الوقت الذي تعالت فيه صيحات الاحتجاج على من نزع قناع البراءة عن ثوب الطفل الرضيع، خاض فرويد هذا البحر اللجي بين مؤيد ومعارض، بل بين ساخر ومتحمس، في مجتمع كانت لا تزال تسوده بقية من النزعة الرهبانية (PURITANISME)، مع ذلك قطع فرويد في اعتقاده الشوط بأكمله وأرسى أسس الصحة النفسية ،في نفس الفترة قطع يونغ(YUNG) شوطه وأرسى هو الآخر أسسه في الصحة النفسية، وأرسى أدلر (ADLER) أسسه وكذا استيكل (STEKEL)، وإذا بالعالم يفاجأ بأربع مدارس في العلاج النفسي:
فرويد مؤسس التحليل النفساني.
يونغ مؤسس التحليل النفسي.
أدلر مؤسس علم النفس الفردي.
استيكل أحد مؤسسي علم النفس الديني.
انطلقوا كلهم من نقطة بداية واحدة.
فرويد آمن بنظرية التطور والارتقاء الداروينية، واعترف في كتابه: "حياتي والتحليل النفسي" بأن إيمانه هذا كان له دور في إرساء أسسه، ونظرية "داروين" فرضية بسيطة تطورت إلى أن صارت منظومة فلسفية تتخذ شكل العقيدة العتيدة تنفي مبدأ الألوهية وتتبنى نهج الإلحاد.
يونغ ابن القس النصراني المحافظ أراد بناء جسر بين التحليل النفسي والدين، لم يستطع نفي التأثير الديني على وجدان الإنسان وسلوكه، فنسب الشعور الديني برمته إلى اللاشعور، وأطلق عليه "اللاشعور الجمعي" (INCONSCIENT COLLECTIF) وسمى هذا الحيز من النشاط النفسي بالحياة الروحية متبنياً بالحرف أفكار التطور الدارونية مقرراً بأن الحياة الروحية إن هي إلا ترسبات عبر القرون لاعتقادات البشر منذ نشأة الجماعة البشرية الأولى في الأرض.
"يونج" يكتشف عالم "اليوجا" وينبهر بقدرات هؤلاء الفقراء الهنود اليوجيين الخارقة وتحكّمهم المذهل في طاقاتهم الجسدية والروحية!
تحليل أو استنتاج يونج هو في الحقيقة إقرار بعجزه عن فهم ما يدور داخل النفس بالنسبة للاضطرابات النفسية، وميله لتفسير هذه الاضطرابات النفسية على أنها من جنس العمليات التي تحصل عند البدائيين أو اليوجيين دليل على محاولته وبأي ثمن إيجاد تفسير ومعنى لهذا اللغز المحير، فقوله :"نعلم اليوم أنه داخل النفس توجد عمليات تغيير ذات طابع روحي وراء العمليات التدريبية التعليمية التي نطالعها في علم نفس البدائيين أو في الحالات الناتجة عن حركات اليوغا (YOGA) "، رغم إقراره بأننا لم نوفق إلى تعريف هذه القوانين، يدل فقط على محاولة "إسكات" صوته الباطني الملحّ، وهو القائل : "كم مرة سمعت مريضاً يصيح في وجهي: لو كنت أعرف اتجاه وهدف وجودي لن يكون هناك مبرر لهذه الاضطرابات العصبية..." ويقول معلقاً على هذه الصيحة : "تبرز هنا الضرورة الغير خاضعة للعقل (IRRATIONELLE)، لوجود حياة تسمى "روحية" (SPIRITUELLE) الحياة التي لا يجدها في الكليات ولا في المكتبات ولا حتى في الكنائس، إنه يرفض ما يلقى إليه هنا من مجموع الكلام الذي يخاطب الفكر دون أن يحرك القلب... في مثل هذه الحالة تعرُّف الطبيب على حقيقة الحياة الروحية يكتسي أهمية أساسية، وهذه الحقيقة هي التي يبرزها "لا شعور" المريض في أحلامه على شكل محتويات يمكننا أن نطلق عليها طابع "دينية"... إن إنكار المصدر الروحي لهذه المحتويات سيؤدي حتماً إلى علاج عكسي وإلى الفشل.
التركيز على أصحاب الرياضات التأملية في الحقيقة شىء مغري بالنسبة للغرب المادي الغريزي، وكأنّ "يونج" يكتشف عالم الروح ويحاول دمج معطياته مع عالم النفس استجابة في العمق لصوت "الدين" الذي كان أبوه "القس المسيحي" يحمل لواءه، وحيث ترعرع "يونج" في أحشاء أجوائه الدينية، فهي إلى حدّ ما رواسب تربيته الدينية، أو بالأحرى رجوع إلى تلبية صوت الطفولة وأجوائها البروتستانية المتدينة.
"يونج" مقتنع بمبدإ الإيمان كأساس من أسس الصحة النفسية وكمفسر للغز الاضطرابات النفسية المحيّر، وهو على أي حال لم يأت بتفسيرعلمي موضوعي، هي بالأساس خلفية دينية إلى حد ما فلسفة وجودية وفي النهاية داروينية تطورية إلحادية.
المعالج اليونجي يدخل مع المريض في علاقة "لاشعورية" على صعيد الأحلام لدرجة أن كلاًّ من المعالج والمريض تتداخل أحلامهم و"تتكامل" وتتلاقى خلال مسيرة التحليل النفسي أنماطُهُما الأوّلية، بل أحيانا يكتشف كلٌ منهما أشياء من الماضي مشتركة بينهما!.. تحاليل في غاية الروحانية السقيمة تتسم أحيانا بطابع "الشعوذة العلمية".
التحليل النفسي اليـونجي العليل أخطـر من التحليل الفـرويدي الغريزي، وعلى المعالج النفسي المسلم أن يتنبه لهذه المنطلقات وهو يطبق هذه الفنيات، لأنها في النهاية تؤدي إلى الإلحاد وإلى إنكار مبدإ الألوهية من أساسه.
وفي المجال الميداني العملي لم تُـِبـنْ هذه النظريات عن قيمة علاجية حقيقية، والخاضع لمثل هذه الجلسات التحليلية يدخل أحيانا في عالم من الاعتقادات الروحانية التناسخية والتي لا تمُت للدين الحق بصلة، عالم من الأوهام والتعلقات تكتسب طابع العقيدة تحت ستار العلمية المزيفة، والعبرة بنهاية المطاف وبالحالة الوجدانية للمريض، لا ببريق النظرية وتلويحاتها غير المبرهن عليها على الإطلاق.
" أدلر":حث الناس على التجمع والالتحام والانصهار في الجماعة مقرراً بأن المريض النفسي يسعى نحو "غاية موهومة" متبنياً هو الآخر أساس النظرية الدارونية : "فالطبيعة التي أمدت الحيوانات بمخالب وأظافر لحماية نفسها، هدت الإنسان إلى غريزة التجمع بكل أشكاله من زواج وصداقة وقبلية… بل إن اللغة تابعة لغريزة التجمع، إذ لو كان الإنسان يستطيع أن يقاوم الحياة وحده لم تكن به حاجة للغة ولا لتزاوج، حتى الزواج عند "أدلر" تابع لغريزة التجمع وابقاء النوع، والدليل عنده عالم خلايا النحل الذي يقصر الوظيفة الجنسية التناسلية على البعض ويحرم الباقي.
الخلفية الفلسفية للعامل الاجتماعي عند أدلر :
يقول أدلر : "إننا في الحكم على أخلاق الفرد ينبغي أن نسترشد بمقدار نفعه للجماعة، وعمله على هناء الإنسانية كلها(23).
لأن "الأفكار والكليات مثل العقل والفهم والمنطق والأخلاق والجمال تصدر كلها وتنشأ من حياة الناس الاجتماعية، وهي – في نفس الوقت – أربطة وثيقة بين الأفراد، يبتغون منها منع المدنيّة من التفكك".
إذاً فمفهوم الفطرة والروح – عند أدلر – لا وجود لها، حيث إن غايات الحياة عنده لا دخل للأخلاق فيها، لأنها تتلخص عنده في نقاط ثلاث:
أولاً : العمل لزيادة الرفه وللإقلال من الجهد في الحصول على هذا الرفه.
ثانياً : حسن معايشة الناس.
ثالثاً : الميول الجنسية .
المدرسة الأدلرية تشترط إذاً وجود غاية يسعى لتحقيقها الإنسان كقاعدة أساسية وضرورية لأي سلوك سوي، حيث إن غيابها يؤدي إلى حدوث اضطرابات نفسية، يقول "أدلر" :"إن الانحراف كما يظهر في كل من الأمراض النفسية والعقلية لا ينتج عن الميول الفطرية، بل عن غاية نهائية موهومة..."
وهو في الحقيقة يستعمل الغاية بصيغة الجمع، لأنه بالنسبة لأدلر لا يمكن أن تتكون الشخصية إلا إذا كانت لها غاية تسعى لتحقيقها، ذلك أننا لا نستطيع أن نفكر أو نشعر أو نريد أو نعمل دون إدراك لهدف ما..
فكلما فكر الإنسان أو شعر أو وجّه إرادته أو قام بعمل ما يكون في هذه الأحوال قد وضع هدفا معينا أمامه، ويكون سلوكه منسجما مع هذا الهدف...
لا مجال للأخلاق والقيم عند "أدلر" باستثناء دعوته للاندماج في الجماعة والتي تخضع أساسا لنظرته الداروينية ويسميها غريزة التجمع، وهي حسب أدلر ضرورية لبناء الحياة أصلا والتي لا يمكن أن تتم بواسطة سلوك شخص بمفرده أو بمنعزل عن المجتمع، هي إذاً استجابة لنداء الغريزة، وفي حالة عدم تلبيتها تحدث الاضطرابات النفسية.
أما بالنسبة للأهداف الحاثة على السلوك فيبدو من تحاليل أدلر أنها تخضع نوعا ما لروح المدرسة الوجودية، فهو يشترط وجود هدف ما ولا يوضح مرمى هذا الهدف ولا يناقش طبيعة انطلاقته، فبإمكان المرء أن يتبنى أيّ هدف ويسلك على ضوئه ويكون بالتالي قد حقق مقومات هذه "الدعامة".
الإحساس بالقصور هو تقرير أيْ رؤية شخصية ذاتية استنتجها أدلر من خلال معايشته لمجتمعه ومحيطه، وعمّم بعد ذلك على البشرية جمعاء..
هل كل البشر دافعهم للسلوك هو الإحساس بالنقص والقصور؟ وهل كل سلوك يصدر عنهم هو نوع من التعويض عن هذا النقص؟
كما أسلفت ليست هناك قيم عند أدلر، وإنما هي خلفية فلسفية وجودية صلبها وعمودها الفقري نظرية "داروين"المتعلقة بالتطور والنشوء والارتقاء، وليس له أي مستند علمي تجريبي، فهو تصور للإنسان كما قال "فرانكل" مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى الوجودي.
أدلر يتكلم عن الهدف أيّ هدف، ويقول بأنه أثناء غياب هذا الهدف لا تكفي حينذاك كل قوانين العلية في العالم لقهر عماء المستقبل أو للتغلب على ضربنا في الحياة على غير هدى.
عماء المستقبل أعتقد هو عدم وضوح الرؤية بالنسبة لشخص ما وما يتبع ذلك من تشاؤم ومن اضطرابات نفسية...
عماء المستقبل حين لا يحس صاحبه بطعم للحاضر الذي هو فيه، وحين يبحث عن معنى لوجوده فلا يجده، كأنه أعمى يسير في مفازة لا يدري ما الذي يمكن أن يحدث له، وهذا يولد بطبيعة الحال حالة من عدم الطمأنينة ومن القلق وما يتبع ذلك من اضطرابات سلوكية، يكون بمثابة الذي يخبط خبط عشواء إلى أن تفجأه الأحداث فهو لم يحسب لها أيّ حساب وهو لا يدري أصلا أين وإلام يسير؟
وحين تتكاثر الأحداث المؤلمة والتجارب السلبية بالنسبة لشخص ما ويتكرر معهاعدم فهم ما يجري ولماذا يحصل له هو شخصيا هذا، تكون المساءلة حينئذ للأحداث نفسها وللظروف المحيطة، وبالطبع للناس الذين هم حوله أو هم السبب في اعتقاده لبعض ما يحصل له، هنا يكون هذا الإنسان "بدون هدف" عرضة لأن يحوم حول ذاته المعذبة والمتألمة يسائلها عن حقيقة ما يجري، ونعلم طبعا ما عساها أن تجيب به هذه النفس الجريحة وغير المسلحة بأدوات دفاعية، ونحن نتفق إلى حد ما مع أدلر وبالضبط فيما يخص هذه الشريحة من الناس بأن إحساسا من القصور سيكون الشعور الملازم لمثل هذه النفوس، وربما يكون هذا القصور دافعا قويا لتغيير السلوك كتعويض عن هذه الحاة المتدنية، لكن نختلف معه في تعميمه على البشرية جمعاء انطلاقة القصور لديهم والدونية لتفسير أي سلوك إنساني، و"أدلر" مثله مثل "فرويد" الذي انغلق في دافعي الجنس والعدوان، فهو لم يكن يملك غيرهما، أدلر كذلك نجد له العذر في عدم التطرق أوالإحساس أصلا بدوافع سامية روحية فهو لم يُجرّبْها، ولو كان قد حصل له هذا لظهر جليا في كتاباته وتحاليله.
نحن نتفق مع أدلر في ضرورة وجود هدف ما لأي سلوك، بلسان الشرع نسمي ذلك "نية"، "إنما الأعمال بالنيات ..." الحديث، وهذه النية تسائل المنطلقات أساسا، أي أن المسلم حين يهُمُّ بعمل ما فهو يرجع إلى منطلقاته أي إلى عقيدته يسائلها، يعقب ذلك مرحلة الاختيار والتردد الموجودين في الطبيعة البشرية، وحين تتبلور النية وتصقل الدوافع بوضوح تبدأ المرحلة العملية التطبيقية:السلوك، والذي سنفصله أكثر حين الحديث عن دعامة السلوك ضمن دعامات العلاج النفسي من منظور إسلامي، هذا السلوك يمكن أن يكون منسجما مع المنطلقات الإيمانية أو مخالفا لها، وهنا بالضبط بداية المعاناة النفسية بالنسبة للمسلم، فمعاناته أساسا من عدم انسجام سلوكه مع أهدافه الحقيقية، وسلوكه المرضي هو نتيجة لسلوك يحدوه هدف يخالف منطلقاته، وبهذه الصورة تأخذ "الأهداف" بالنسبة للمنظور الإسلامي معنى محددا لا عائما كالذي عند "أدلر".
استيكل ألح على مفهوم "عقدة الذنب" وأنها السبب في كل انحراف سلوكي أو مزاجي، والحل هو التوبة بالمفهوم الديني معترفاً بالدين وبضرورته، مؤسساً مذهبه على "نظرية الخطيئة"(24)(GUILT THEORY)، ولا يخفى سيطرة هذه النظرية على العقلية النصرانية ودور الرهبان وجلسات الاعتراف، وقديما صكوك الغفران!
العلاج الجشطلتي يرتكز على فلسفة الجشطلت الألمانية المنشأ ويعتنق مفاهيم "الوجودية – الظواهرية الأروبية" عن الإنسان مؤمناً بمبدأ "الهنا والآن" الوجودي الذي لا يؤمن إلا بالإنسان، وتلك النزعة التكاملية" التي يدافع عنها، عند التأمل في خباياها تفسر بميزان الإسلام" باستعمال كل الوسائل والحيل لتحقيق كل ما للنفس فيه رغبة" .
العلاج الجشطلتي يضع بين عارضتين ،أي يتجاهل أو ينفي كل ما يتعلق بالقيم والمعتقدات الدينية، ويصب كل اهتمامه على الإنسان، يعتقد بل ويرسخ الاعتقاد بأن حلّ مشاكل الإنسان يجب أن تنبع من ذاته لا من خارجها، لذا فهو يلح على التجربة الوجدانية الآنية هنا والآن، يضطر أحيانا لتضخيم شعور ما أو إحساس ما لزيادة تعميق المرجعية الذاتية، فيزداد إحساس الخاضع لمثل هذه الجلسات بضرورة وبنجاعة بل وبحتمية هذه المرجعية الذاتية، وبقدر ترسخه المعرفي والوجداني في هذه المرجعية الذاتية بقدر ما يبتعد عن أي مرجعية أخرى، وعلى الخصوص المرجعية الدينية، فتكون هذه المنهجية الوجودية في الحقيقة على طرفي نقيض هي والمرجعية الدينية، ويمكن أن يتبادر إلى أذهان أصحاب المرجعية الوجودية الجشطلتية أنّ المرجعية الدينية بمثابة إملاء خارجي، أي غير نابع من ذات الإنسان وبالتالي لا مشروعية لها، وهنا بداية التدليس والخطر الحقيقي!..
الخطر من هذه الفلسفة ومن هذه المقولة بالذات كما أثر عن الإمام علي رضي الله عنه في حق الخوارج حينما حملوا شعار "لا حكم إلا لله"، رادّا على هذا الشعار بقوله :"كلمة حق أريد بها باطل"، فهل الذي يستند على المرجعية الدينية رجل مقلد وحسب؟
علم السلوك والذي سنتعرض له في فقرات "السلوك فكرة ونية "و" الرياضة النفسية ذروة العلاج النفسي الإسلامي "و" علم السلوك سبيل السعادة"، يؤكد على المرجعية الذاتية بشكل قوي، إذ المسلم القوي هو المقتنع حقيقة بما يتلقى من معطيات دينية، ولا يكون مقلدا وحسب .
علم السلوك واقعي بمعنى أنه يعترف بالمرجعية الذاتية وفي نفس الوقت بمحدوديتها، فهناك طور يطلق عليه الإمام الغزالي"طور ما بعد العقل "أو" عين النبوة" تعجز أدوات الإنسان الحسية والعقلية عن اقتحام أسراره وتذوق معطياته إلا إذا أسلمت القيادة للروح المؤهلة لمثل هذه الرحلة المعرفية السامية، وكل ما تتوصل إليه الروح من معارف ومكاسب يعود بالنفع بعد ذلك على عالم الحس والعقل، فتعقل الحواس وتعقل العواطف ويملك حينئذ هذا الإنسان "قلبا" بمعناه القرآني :﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها..﴾ (الحج 46)، ﴿إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ (ق. 37).
لكل من سالك الطريق المحمدي وسالك طريق الجشطلت تأكيد على أهمية التجربة الوجدانية، والاختلاف في أفق كل واحد منهما، فالجشطلتي اكتفى بالانكباب على عالم غرائزه وهواجسه وشكوكه وأمراضه النفسية يسائلها ويعمق الشعور بها، يعتبر ذلك هو السبيل إلى السعادة المنشودة، والسالك المسلم اعترف بكل هذه العوالم السفلية بدءا، اعتبرهذا الاعتراف أول عتبة للعروج بسلوكه والترقي به، ثم انطلق في رحلة روحية سامية تقطع بكيانه ملايين المسافات، تمتاز رحلته هذه بالواقعية المطلوبة وهي الاعتراف بالضعف البشري كما أسلفنا، وتمتاز بالعلم وبالطموح الإيجابي، إذ تسعى لاستبطان السر الخفي من خلق الخلق ومن تدافعات البشر واستكشاف المعنى العميق لوجوده ووجود من حوله، هذا العالم سنتكلم عن نتائجه المتينة القوية الراسخة في الفقرات التي أشرنا إليها آنفا.
هذه بعض الفروق الجوهرية بين الجشطلتية الوجودية كمذهب قاصر عن الوصول للحقيقة، وبين السلوكية الإسلامية التي تحوي في طياتها الواقعية والتحليق والسمو ورسوخ المعارف والمدارك، والموصلة بالتالي إلى السعادة الحقيقية.
العلاج بالمعنى الوجودي، بداية للرفع من معنى الإنسان، والنهوض به من المستوى القطيعي الغرائزي إلى البحث عن معنى يعتنقه ويسعى إلى تحقيقه، إنما الإشكال يكمن في أن مؤسس هذا الاتجاه نفسه – وهو الدكتور "فرانكل" – لا يعرف هذا المعنى. بل ولن نعرفه كلنا – حسب رأيه – ولو على فراش الموت.
العلاج بالواقع، نهج أخلاقي بالأساس، في هيكله العام يشبه مبادئ الإسلام، إذ يدعو إلى إشباع حاجتين أساسيتين يلح عليهما الإسلام كثيراً: الحاجة للحب والاندماج، والإحساس بالقيمة والطريق الموصل لذلك: أن يكون سلوك المرء واقعياً، مسؤولاً وصواباً. إلا أن مبدأ "الواقعية" هذا بالذات ، هو خضوع للواقع، فالخروج على الأعراف ــ بما فيها المخالفة للدين أحيانا ــ تحت أي مبرر كان، هو بداية الخروج عن حدود مبدأ "الواقع" عند "جلاسر".
السلوكية أفظع اتجاه، من حيث بخس قيمة الإنسان واختزال كل دوافع سلوكه إلى منعكسات شرطية (REFLEXES)، الواقع والواقعية والاندماج وعالم القيم والخطأ والصواب والمسؤولية وفلسفة المعنى، هذه المعاني أو المصطلحات تحتاج منا لإيضاح أكثر، فلسفة الحياة هي الرؤية التي يعتمدها الإنسان ليحيا فوق هذه الأرض، والغايات التي يعتقد أنها أهدافه وقناعاته..
أحيانا يحس الإنسان باختناق وبضيق المساحة التي يتحرك بداخلها، ويطمح لفضاء أوسع ليحقق في إطاره ذاتيته، يعتقد ذلك جازما...فينفصل عن الواقع شيئا ما، بمعنى أنه لا يعترف بقيود هذا الواقع فيما يخصه هو، ويتمنى ظروفا أخرى تمكنه من تحقيق ذاتيته، في حين هذا الواقع بهذه القيود هو الذي يمكنه حقيقة من تحقيق هذه الذات على أكمل وجه، وذلك لأن مغالبة العوائق والحواجز والرضى بالواقع وبملابساته المختلفة، كل هذه العوامل تختبر حقيقة الإنسان الباطنية وتصهر معدنه، فإذا حقق شيئا تكون له شرعية قوية وحلاوة ولذة يحس بها من كابد..
هذه هي فلسفة "جهاد النفس" أو الجهاد في الله الوارد في قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ العنكبوت 69 المطالب بها المسلم خلال حياته ومكابدته لكل الصعاب والعوائق والتحديات، هي نظرة تعترف بالواقع وبالواقعية :
الواقع كمعالم سير تهمّ كل هذه القوافل والجحافل من البشر الذين يدبون على ظهرها، الواقع يتمثل في مراعاة وجودها كأمر حتمي لا يمكن تجاهله وإلا اقتربنا من عالم الفصام والذهان عموما..
أما الواقعية فهي التفاعل مع هذه المعالم والخضوع لمحك التأثير والتأثر الحتمي في كل العلاقات البشرية، هذا المحك يبرز المعادن والقناعات، فرغم مراعاتي للواقع ولكل هذه العوامل من تأثير وتأثر أملك إرادة حرة وأملك على الخصوص ذاتا مستقلة بعواطفها وبعقلها وبغرائزها وبدوافعها المختلفة، وعلى الخصوص روحا لها القدرة على التحليق متجاوزة البعد الذاتي الأرضي الضيق، هذه الذات المستقلة تمكنني من الاختيار أمام مواقف مختلفة وخيارات متعددة بدون إكراه من أي جهة كانت ... سمات الشخصية تعانق إلى حد ما هذا المفهوم، لأن الناس تختلف من حيث استقلالية التفكير والقرار ومن حيث الاعتماد على النفس أو على الغير، ومن حيث التريث والصبر على الآخرين أو الاندفاع والتهور،ومن حيث إفساح المجال للخيال يسبح بحرية مبتعدا عن الواقع أو على العكس إعمال الفكر والتمحيص في كل صغيرة وكبيرة..
الإنسان يملك القدرة على بلورة هذه الخصائص، لديه إمكانية تغيير بعض الملامح في شخصيته، عنده إمكانية النقد وعدم الانصياع لكل من هب ودب ...
فنحن حين نطلب من مريض نفسي اعتماد استراتيجية جديدة في حياته، نطلب منه في نفس الوقت تغيير بعض الملامح في شخصيته وبعض القنوات السلوكية المعرفية التي كان يعتمدها فيما قبل والتي أدت حسب تحليلنا إلى معاناته النفسية الحالية..
ما نقترحه على هذا المريض هو في الحقيقة فلسفة حياة برؤية جديدة تعتمد في بعض جوانبها على رؤيتنا نحن واجتهاداتنا نحن واعتقاداتنا نحن!...
خلفيتنا نحن المعالجين موجودة معنويا وضمنيا ونحن نبحر بنفسية هذا المعاني نفسيا في بحر الحياة اللجي..
في العلاج التقليدي بالتنويم المغناطيسي المبني على الإيحاء القوي المباشر يقول المنوم:"أنت الآن لا تسمع إلا صوتي، ولا تطيع إلا أوامري"، بمعى آخر يريد أن ينفث في روع الخاضع لجلسة التنويم الإيحاء التالي:" أنت الآن تخضع لسلطاني ولأفكاري ولنظرتي للكون ولمعتقداتي، أي لخلفيتي الفلسفية أو العقدية"، وهنا يكمن خطر التنويم المغناطيسي التقليدي، بخلاف الطريقة الإريكسونية الجديدة والتي اعتمدت أسلوبا تخاطبيا يحترم قناعات المريض ويساعده على استعمال طاقاته الباطنية المخبوءة وكل إيجابياته، وإذا اضطر المعالج الإريكسوني لاستعمال الإيحاء المباشر فيكون هذا في إطار ضيق جدا كمحاولة الحد من ألم عضوي حاد وفي مجال الحروق بصفة خاصة، وكذا فيما يخص بعض المواقف النفسية التي تتسم بالجمود والعقم وتكون واضحة الغرابة وعديمة المنطق، ويكون هذا الموضوع واضحا للمعالج وللمريض على حد سواء.
الجشطلتيون الوجوديون وعلى رأسهم "بيرلز" يعتبرون المجتمعات الحالية مجنونة، ويعتبرون السير في ركاب هذا الواقع العالمي الحالي نوعا من الذهان الجماعي..
هذا التحليل له نصيب من الصواب إذا نحن نظرنا للعالم نظرة كلية ولم نتقيد بمجتمع معين أو بدين معين..
انطلاقة الوجوديين واضحة جدا، فهم لا يعترفون بدين، وعقيدتهم تتلخص في الإنسان وتحديدا في "فلسفة وجوده"، تسائله عما يريد وتضع له كل المبادىء والمذاهب والديانات بين عارضتين، أي تدعوه ألا يتأثر بها وأن يسعى لتكوين فكرته عن نفسه وبلورة رغباتها بصفة محايدة بعيدة عن أي تأثير!
"بيرلز" نفسه مؤسس مدرسة العلاج النفسي الجشطلتي لما وضع بين عارضتين كل المذاهب والديانات نزل إلى أرذل وأحط مستوى من الغريزة، جرب جملة من الانحرافات الجنسية بما فيها الشذوذ الجنسي، وفي بعض مراحل تجربته الوجودية مال إلى الثقافات الشرقية، ومات وجل المقربين إليه بما فيهم زوجته قد انفضوا عنه(25)، وللأسف الشديد كثير من أفكاره الوجودية موجودة في البرمجة اللغوية العصبية التي يتلقفها أبناؤنا دون تمحيص للمنطلق، يغريهم بريق عبارات مثل "إثبات الذات" أو "النضج النفسي" أو "تكامل الشخصية" أو "سد الثقوب"، فيتلقفون هذه المعاني والعبارات بل والفنيات مجردة عن "منطلقها الوجودي الخطير"!
الواقع والواقعية بالنسبة للجشطلتيين إذاً لها خطورة، ويجب أخذ الحذر منها، فإذا اعتمد معالج نفسي روح هذه المدرسة مع مريض عنده ميول غير فطرية بسبب مرضه وكان هذا المريض ينتظر فقط فرصة تفاعله مع مثل هذا المعالج "المتفتح"، حتما سيساعده هذا المعالج دون أن يشعر على مضاعفة حوافزه الخاصة بهذه الميول المنحرفة عن الفطرة، فكأنه لم يكن بحاجة إلا لمثل هذا الموقف الرسمي "العلمي" من قبل هذا المعالج لخوض تجربته الوجودية الثائرة على واقعه العرفي المتسم بالانسجام مع معتقدات مجتمعه وبيئته، فهو قد وجد المبرر!، هذه هي الخطورة في تطبيق فنيات دون الالتفات للمنطلقات، وهذا هو الخطر في ترديد ما عند الآخرين دون عرضه على محك "الذاتية" و"الأصالة "، أي محك المنطلقات التي تشكل حقيقة الشخصية.
الواقع والواقعية بإيجاز هو التفاعل مع الواقع وعدم رفضه أو تجاهله أو الهروب منه انطلاقا من وضعية تتميز بالضعف والإحساس بالدونية وبالانهزامية، تقبل الواقع هو في الأصل تقبل للقضاء والقدرأحد أعمدة الإيمان الستة ، لكن تقبله ليس معناه الانسياق وراء كل ناعق أو التخلي عن المبادىء إرضاء لسلطة ما، تقبل الواقع يكون أحيانا باتخاذ مواقف جريئة أو باعتزال الخلق إذا استحال التعايش معهم في حال معارضتهم الصريحة للمبادىء، في هذه الحالة "الواقعية" تتسم باتخاذ مواقف متميزة تمتاز بإخضاع الواقع للمحك النقدي البنّاء، وينتج عن هذا سلوك متميز ولو اضطر صاحب هذا السلوك أن يهمّش أو يعادى، و"رحم الله عمر ما ترك له الحق من صديق! " .
والصراع بين المدارس في عمقه هو بين الاعتراف أو عدم الاعتراف بالدين ،والاستقراء النزيه لتاريخ نشأة مختلف الاتجاهات الحديثة يشير إلى أن التحليل النفسي وما ترتب عنه كان محاولة من مؤسسي هذه المدارس لكي تحل نظرتهم لعلم النفس محل الدين.
وأول تلميذ لفرويد تبنى النظرة الدينية لعلم النفس هو "استيكل" أحد مؤسسي علم النفس الديني، وكان صريحاً لا يماري، في حين راوغ يونج بحله الوسط، وتعالت صيحات العلماء بعد ذلك بضرورة وجود "حياة روحية" عند الإنسان، وكلهم اتفقوا على أن الدين أعظم عاصم من الأمراض النفسية، فلا بأس بأن يستغل كعامل من عوامل الصحة النفسية، ليس كحقيقة يجب أن نشحذ الفكر والهمم لفهم مدلولها، بل كمهدئ وعامل مساعد أو على أصح تعبير كخلفية فلسفية تكمن وراء الأسس العتيدة "لمدرسة ما".
"فرويد" مثلاً يخاطب راهباً نصرانياً تبنى نظرية التحليل النفسي بقوله:"إنك حسن الحظ على الأقل لأن الدين يذهب بالعصاب"(26). ويونج يؤكد على أهمية تبني نظرة دينية في الحياة مع احتفاظه بأسسه، وغيرهما كثير من علماء النفس الذين أكدوا على أهمية الدين في مجال الصحة النفسية، حتى إن كثيراً من فروع التحليل النفسي من يرى بأن الأديان تعدنا بالكثير، بينما لا يعدنا التحليل النفسي بشيء(27).
فهل الدين لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الأسس التي تقوم عليها دعائم العلاج النفسي، ومكانه هو الخلفية الفلسفية الكامنة وراء الأسس فقط؟
أم أن الدين فطرة وجبلة، وبذلك فهو ضرورة وصوت باطني لازم، وبالتالي رغبة والحاح لابد من إسكاتهما وإشباعهما، وإلا وقع التناقض في كيان الإنسان، وحدثت الانحرافات السلوكية والأمراض النفسية؟
هذا التعريف الأخير هو بالضبط كلمة الإسلام بشأن الدين كظاهرة نفسية تدرس، وله كلمته التفصيلية التحليلية فيما يخص ماهية الدين الحق وعلاقته بعالم الإيمان، ودرجات اليقين وسلم الأمراض والصحة النفسية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه : أسس العلاج النفسي من منظور إسلامي.